رحلةً ترصد وصول دفعة مهجرين من القاهرة إلى هانوفر – فريدلاند (سكسونيا السفلى).
في تجربته "عشرة أيام في مدرسة فريدلاند للمهجرين في ألمانيا":
في كل مرة يتم استدعائي فيها للحديث والمشاركة في ندوة حوارية أو تلفزيونية عبر المحطات المعنية بهموم ومشكلات اللاجئين والنازحين أو الراغبة في تسليط الضوء على هذه القضية التي طالت شريحة واسعة من أبناء وطني سوريا والبلدان الشقيقة المجاورة في العراق واليمن، نتيجة ظروف الحرب القاهرة التي أجبرت نيران حممها الطائرة وغازاتها الكيميائية وصواريخ روسيا العابرة لحدود الدول، وظروف الاعتقال والملاحقات التي تسميها أنظمتنا المستبدة بالأمنية، وتعصب بعض أطراف ما بات يطلق عليه إعلاميًّا النزاع السوري وقبل هذا كانت "ثورة" طالبت بالاحترام وتعزيز حرية التعبير السياسي والممارسة الديمقراطية وتمكين الشعوب من ممارست حقوقهم السياسية كما هو مبين في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية.
فأجد نفسي أعيد اجترار الكلمات ذاتها في نفس الموضوع ونفس القضية وفي نفس السياق، وكنت دائمًا أطرح على نفسي السؤال التالي "ما هي المعلومة الجديدة التي سأقدمها في هذا الحوار؟، دون أن أجد جوابًا يقنعني، أمّا اليوم فأريح نفسي من هواجس ماذا سأقول وما هو الجديد في الموضوع، لأننا وبكل صدق نعيش كل يوم وليلة أمرًا جديدًا في ما أحب أن أسميه "مدرسة فريدلاند" لإعداد المهاجرين الجدد أو ملتمسي اللجوء.
لست الشخص الأول ولن أكون الآخير، الذي مر وسيمر على "مدرســة فريدلاند"، لإعداد المهاجرين أو اللاجئين الجدد من القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا، الذي يضم أكثر من 600 مهاجر أو ملتمس اللجوء في ألمانيا، في هذه اللحظة التي أسرد فيها لشخصكم الكريم ما أعايشه على أرض واقع التجمع.
ولست أخفيكم أنني لم أكن أعلم عن المكان شيئًا، ولست أبالغُ أو أتجاوزُ في القولِ إنني لم أسمع به إلا من خلال ما تناقله ناشطون عبر مقطع فيديو حول فيضان ضرب التجمع في عام 2016، حينئذ استقبل المخيم في شهر أبريل من العام ذاته الدفعة الأولى من المهاجرين القادمين من تركيا.
سمعت الكثير من أقوال القائلين أو المتقولين حول المجمعات التي يتم سوق اللاجئين إليها وحشرهم فيها، وبعضهم قال عليك بالصبر والمصابرة فهي كفيلة في امتصاص ما قد تشعر به من خيبة أمل أو بعض عوارض الإقامة في المجمع، وقد أصدروا حكمًا غير قابل للنقض بأننا سنواجه خلال فترة إقامتنا في المجمع المحكوم عليه سلفًا بأنه غير مريح.
فترة إقامتنا في التجمع، قد تواجه صعوبات وأمورًا كثيرةً ربما لا تسركم، مثلًا الإقامة مع مجموعة من الشبان أصغر منك سنًا أو الاستحمام في حمام مشترك ومطبخ يشترك في استخدامه الجميع، ومشاركة العائلات سكن الشبان العزاب.
حين غادرت القاهرة إلى هذا المكان كتبت في صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي منشورًا مختصرًا قلت فيه: "أنا الآن في الطريق إلى منفى قسري جديد"، فتلك العبارات كانت تنبع من صميم قلبي وأنا مقبل على وضع جديد في ألمانيا التي أشكرها على أنها قررت احتضاني ومنحي فرصة إعادة التوطين عن طريق منظمات الأمم المتحدة المعنية بالأمر، بعد أن ضاقت علينا مصر وغيرها من بلاد العرب بما فيها جامعتهم العربية.
القارئ الكريم، ما أريد إخبارك به أنني خططت سطوري هذه من داخل تجمع "فريدلاند" ولاية هانوفر، سكسونيا السفلى وأنا من نزلائه، ما زلت أعيش تفاصيله اليومية الاعتيادية منها والعاصفة الثلجية المتجمدة، والمتجددة مع إشراقة كل يوم جديد، وقصصها الإنسانية متعددة الجنسيات التي استوعبتها بصدق إحضان وأجنحة مدرسة فريدلاند برعاية نبيلة ذات عمق وبعد إنساني التي إن دلت على شيء إنما يدل على سمو ورفعة أخلاق القائمين والعاملين في ما أصر على تسميته مدرسة فريد لاند لإعداد المهاجرين.
أهلا بكم في مدرسة فريد لاند.
في صباح يوم الخميس 8 ديسمبر 2017، أقلعت طائرة الإيرباص التابعة لشركة مصر للطيران من مطار القاهرة الدولي البوابة F2 التي كانت تقلني مع حوالي 260 شخصًا آخرين من مختلف الجنسيات.
كانت الوجهة مطار هانوفر في سكسونيا السفلى، على مسافة أربع ساعات ونصف قطعت الطائرة ما يزيد عن 6000 كيلو متر حتى استقرت بنا على رصيف هانوفر، كانت سيارات الإسعاف والدفاع المدني والشرطة الخاصة بأمن المطار تحيط بالطائرة من كل اتجاه تحسبًا لأي طارئ، بينما كانت ثلاث حافلات تستعد لنقلنا من المدرج إلى القسم المختص بإجراءات الدخول حيث كان الموظفون ينتظروننا برفقتهم عدد من المترجمين والمسؤولين في الإدارة الاتحادية وقسم الهجرة، بعد إجراءات الدخول تم مرافقتنا عبر ممر خلفي إلى قاعة الانتظار، وقبل أن ندخلها وجدنا مجموعة من الناشطات يحملن هدايا وينتظرن قدومنا بابتسامة مشرقة يقولن هل معكم أطفالًا؟، ويسرعون ويقدمون الهدايا في مشهد لم أشهده لا في مطار القاهرة الدولي ولا مطار الملكة علياء الدولي في الأردن.
جلسنا في قاعة الانتظار التي لا تشكل ربع مساحة البوابة ثلاثة في مطار القاهرة الدولي، كان البناء متواضعًا بالمقارنة مع مطار القاهرة الدولي الذي لم أجد أنا ومن معي وغيرهم مكانًا نستريح فيه بسبب العدد القليل جدًا من كراسي الانتظار، وفي الصالة من الداخل لم تسعفنا الغرف المصلى كي ننتظر فيها من الساعة الثالثة فجرًا حتى الساعة التاسعة صباحًا موعد أقلع الطائرة.
بينما كانت القاعة التي تم استقبالنا فيها في مطار هانوفر متواضعة من حيث الحجم والبناء الذي شكل المعدن غالب بنائه وأسقفه، لكنها كانت مليئة بالمقاعد التي استوعبت كامل العدد وزيادة، بالإضافة إلى تجهيزها بـ"بوفيه" أعد خصيصًا لاستقبال المهاجرين الجدد الذين تم انتقاؤهم عن طريق المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في مصر، وبعدها تم انتقاء العدد الذي وصل منهم إلى هانوفر عن طريق وفد من مستشاري الحكومة الاتحادية الألمانية الذي التقانا بالقاهرة، ثم أوكلت الأعمال اللوجستية إلى الهيئة الدولية للهجرة في القاهرة التي وقع على عاتقها التنسيق مع السفارة الألمانية وإجراء الفحوصات الطبية وتخليص الأوراق من مجمع التحرير بالقاهرة.
بعد أن استقرينا المقام في القاعة المذكورة كانت المفاجئة الثانية بعد مفاجئتنا بالهدايا وقاعة الانتظار والبوفيه الذي كان يعج بأنواع الشكولاتة والبتيفور وزجاجات المياه وغيرها من أسباب الضيافة، فكان أن دخل علينا في القاعة مسؤولون من المكتب الاتحادي للهجرة وشؤون اللاجئين وبعض المعنيين برفقة مترجمين وبدأوا بالترحاب بنا بما يشبه حفل استقبال قمة في الإنسانية، حيث قالت المسؤولة هكذا: "نحن سعداء لأنكم موجودون الآن بيننا.. نعلم حجم معاناتكم السابقة"، هذه الكلمات كانت بمثابة ناقوس قرع وجداني وحركني باتجاه المتحدثة لأقول لها: "بل نحن ازددنا شرفًا بأن منحتمونا فرصة أن نكون مواطنين ألمان ونرجو أن نستطع أن نخدم ألمانيا في قادم الأيام".
بعد حفل الاستقبال، تم نقلنا بحافلات إلى مجمع فريد لاند حيث نستقر حوالي أسبوعين هي بمثابة دورة تأهيلية في اللغة والاندماج والتعارف والثقافة والفن معطرة برحيق إنسانية الإنسان المتحضر المتسامي على اللون والطائفة والجنس وما يحـط من القيم الإنسانية النبيلة.
"فريدلاند" الواقع في إقليم هانوفر عاصمة ولاية سكسونيا السفلى غرب ألمانيا، لم يكن مجمع للمهجرين أو ملتمسي اللجوء متعددي الجنسيات والأعراق، بل كان مدرسة حقيقية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ وعبارات لإعداد المهجرين من أجل مشاركة فعالة واندماج سريع في المجتمع الألماني.
في سبيل هذه الغاية، سخّرت إدارة المجمع "المدرسة" كادرًا متخصصًا في الاستشارات القانونية والاجتماعية وقوانين العمل والهجرة والاندماج بالتعاون مع منظمات حقوقية تدعم المهاجرين مثل منظمة كاريتاس "caritas fried land".
المجمع الذي تم تأسيسه أثناء الحرب العالمية الثانية من قِبَل الجيش الإنجليزي تحول عبر عقودٍ طويلةٍ لكوكب مصغر تمكن من جمع طيف واسع من المهجرين والنازحين من قارات العالم من عام 1945 وجنود الحرب العالمة الثانية مرورًا بمهجري تشيلي وفيتنام ومهجري القرن الحادي والعشرين، وقد تم توثيق معظم مراحل استقبال المهجرين خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها في متحف "فريدلاند"، حيث تم تحويل مبنى قديم لمحطة القطارات إلى متحف خاص بفريدلاند في مارس 2015، وعندما نقول متحف هذا لا يعني أنّنا سنشاهد فيه التماثيل والمعدات إنما هو متحف "صور" ووثائق وكتب، يضم حوالي 10 آلاف صورة، تم تجميعها من شهود عيان ومن المعنيين بالقضية بشكل شخصي، خلال عشر سنوات من المتابعة والتدقيق كما أخبرتنا السيدة سماح الجندي، سورية وهي موظفة قسم "بيداغوجيا" في المتحف، وكذالك فعل السيد منذر خلوص الموظف في المتحف وهو أيضًا سوري، كما يرافقهم مجموعة من الموظفين الألمان ومن عرقيات متعددة منهم فتاة من أصول إيرانية.
متحف فريد لاند، يضم نخبة من الموظفين كان لنا شرف الاستماع إليهم وهم يعملون على جسر العلاقات بين المتحف ونزلاء فريد لاند من المهجرين، والوفود السياحية والثقافية التي تزوره بشكل يومي من كل بقاع الأرض، هذا الفريق المميز يجعلك تعيش تلك اللحظة التي عاشها نازحو الحرب العالمية الثانية ومراحل تراجع الألمان في الحرب، يستعنن في عملهم بتجهيزات من أحدث تقنيات تكنولوجيا عرض الصور وأجهزة الإسقاط الضوئي ثلاثية الأبعاد مع تموضع وإضاءة قمة في المهنية والاحتراف.
فريد لاند "المدرسة".. التجمع هو بالأصل قرية ألمانية تتبع لولاية هانوفر غربي ألمانيا، تحولت لنزل للنازحين منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يومينا هذا، وهو كلتة عمرانية أكبر مبانيها طابقية هو المستشفى أو المستوصف، وهو مكون من ثلاث طبقات ويتسع لعشرات الأسر، ويقدم خدمات الطوارئ والإسعافات العاجلة.
يوجد مطعم ودار مناسبات تتسع لأكثر من 600 شخص في آن واحد، وتقدم لنزلاء المجمع كافة وجبات الإفطار والغداء والعشاء بمواعيد صارمة، مع فرض انضباط دقيق في الوقوف بالصف واستلام الطعام المخصص لكل شخص، وطريقة إفراغ النفايات في مكانها قبل تسليم الصينية التي يقدم بها الطعام للفريق الخاص بالتنظيف، مع ضرورة إعادة الكراسي لما كانت عليه قبل الجلوس على الطاولة لتناول الطعام.
يقام في المطعم فعاليات وأنشطة ثقافية واجتماعية ومناسبات أبناء المنطقة من احتفالات وأعياد ميلاد والمهجرين النزلاء في الجوار مرحب بهم من قبل أهالي المنطقة في مناسباتهم العامة.
كل الكتل السكنية لها أرقام وجهاز فني وإداري غاية في الانضباط والنظافة، مع مراعاة الالتزام بالقوانين، حيث لا يمكن التهاون في تطبيقها مهما كانت الظروف، فالطعام في وقته والنوم والنهوض منه في وقته المعلوم.
النظافة شيء مقدس، كل يوم في الصباح وبعد العصر يأتي عمال النظافة لتنظيف أروقة السكن الخاص بالمهجرين وتبديل أكياس النفايات ورميها، كما يوجد فريق مختص بصيانة المياه والحمامات يقوم بتدقيقها بشكل يومي، في كل نزل من منازل المجمع التي بالمناسبة يطلق عليها اسم دار، كما أن هناك فريقًا مختصًا بنظافة الأسرة وفرشها، وقسم مخصص لتنظيف الثياب ضمن أوقات محددة لا يمكن تجاوزها، والوقت والنظام في مدرسة فريدلاند أمر لا يمكن التهاون به، كما لا يسمح بحال من الأحوال للنزلاء إشعال سيجارة في الغرف أو النزل "الدار".
يوفر التجمع للمهاجرين كل هذه الأشياء بشكل مجانٍ، ويقدم لهم بعض الثياب التي يتم جمعها من المتبرعين بسعر رمزي جدًا، وخلال فترة إقامة المهاجر في المجمع، يحصل على دورة اندماج متخصصة لشرح كل ما يمكن أن يطرحه المهاجر من تساؤلات من المدرسة إلى العمل وقانون المرور والجامعات والتأمين والتدريب.
كما يقدم دورة تأسيسية في مبادئ عامة في اللغة الألمانية كمدخل لتعلم اللغة بعد أن يتم فرز المهاجر إلى المقاطعة التي سيقيم فيها، ويوجد دار لتعليم اللغة والاندماج يشرف عليها أساتذة مختصون، كلٌ في مجاله، فضلًا عن مدرسين محترفين للغة والعلاقات المجتمعية، وقد عايشت ذلك بنفسي.
من لحظة وصولنا للمجمع، تم استقبالنا استقبالًا حافلًا بحضور رئيس المجمع والموظفين في مكتب المهاجرين وكبار الموظفين في المجمع، وقدموا لنا كامل العناية والاحترام المضاعف وبخاصة أننا تم استقدامنا من أجل إعادة التوطين في ألمانيا ولنساهم في ما بعد في خدمة هذا البلد العريق الحضاري.
تم توزيع العائلات على الدور وبعض العائلات الصغيرة تم دمجها مع أخرى من بلدان مختلفة، كذلك فعلوا مع الشباب العازبين حيث جمعتنا غرفة واحدة ستة أشخاص من سوريا والعراق والسودان وإرتيريا، بهدف اندماجنا مع بعض كخطوة أولى لاندماجنا في المجتمع الألماني.
توفر دور السكن الإنترنت مجانًا، الأمر الذي جعل زملاء الغرفة ونزلاء "الدور" ينشغلون ويشتغلون في الإنترنت ووسائل تواصله المختلفة عن الغاية المنشودة وهي الانخراط بعلاقات جديدة يتم من خلالها التكاتف والتعرف على ثقافات الآخرين والاستفادة من تجاربهم التي مروا بها وما يحملون من أفكار وتطلعات لمستقبل مشرق في ألمانيا.
لو كان الأمر بيدي لتقدمت للجهات المعنية بمقترح أن يتم فتح الإنترنت في ساعات محددة من أجل تمكين النزلاء من التواصل والاطلاع على المستجدات وتقفل بعد ذلك، من أجل مراجعة الدروس والتحضيرات لليوم التالي.

والأمر الآخر الذي كنت سأفرضه على نزلاء الغرف ومن ثم الدور، أن يقوموا بعمل مشترك ويقدموا تقريرًا عن المكتسبات التي تحققت لهم من السكن الجماعي متعدد "العرقيات"، وأن يكتبوا توصياتهم، هكذا يتحقق الغرض من تواجد كل هذه العناصر في مكان واحد.
الشكر والاحترام كله لإدارة التجمع "المدرسة" وللعاملين فيها والمشرفين عليها.. لقد أدخلتم البهجة لقلوبنا، ولست مضطرًا بعد الآن أن أبحث عما يجب أن أقوله في حديث إعلامي أو ندوة أو الرد على تساؤلات المتسائلين عن احتياجات المهاجرين وأحوالهم، لأنني أعتقد أنّ نزلاء التجمع من المهاجرين "المستوطنين" لا ينقصهم شيئًا بل أنهم تعلموا سلوك وقواعد الانضباط، وفتحت لهم أبواب المانيا على مصراعيها، والبقية تقع على عاتقهم ومهاراتهم واستعدادات كل منهم لفرض نفسه في المجتمع الألماني.
ميسرة بكور
كاتب سوري